قراءة نقدية:
الموت والجندرة التقمصِّية: وسيلتان لنجاة المرأة البريطانية والسودانية
٢٤ مارس، ٢٠١٥
تمت بعض التعديلات في ١٨ إبريل، ٢٠٢٠
بقلم: فاطمة البنوي ----------------
يتنقل كاتب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" الطيب صالح، بين ساحات مجتمعه النفسية والاقتصادية، وملفات ذاكرته، وطيَّات تأملاته، وقصاصات من تجاربه اليومية، معطياً لروايته أبعاد وقضايا مختلفة ومتيحاً لقارئها فرصة الارتباط والتشويق. فتارة يحكي عن أضرار الرأس مالية متأثراً بنقاشٍ دار في دكان حيِّه وتارة يسلط الضوء على المرأة السودانية وحقوقها المكبوتة متأثراً بنقاش دار بين الجيران. لكن رغم كل هذه الأصوات، إلا أن هناك بعض القضايا الأساسية في الرواية التي يظل يعود لها لإثباتها.
من هذه القضايا رمزه للغرب بالمستعمِر المتحضر والسودان بالمستعمَر المتخلف، والذي يُنتج العديد من الثنائيات. فمثلاً، نشاهد نقيد لألوان ومناظر الريف الانجليزي في صحراء السودان ونباتاتها اليابسة وحيواناتها العجفاء، ومن ثم نرى استقلال وتقدُّم الأول وبدائية وتخلف الثانية. وحتى مع عودة بطل القصة إلى بلده في السودان، فإننا نراه وهو يحاول أن يقرِّب الفجوة بين عائلته هناك ومجتمعه في بريطانيا، يرد على تساءلاتهم واستفساراتهم بشكل بسيط ويمتنع عن قول ما ظنَّ أنه معقد وبالتالي لن يفهمه أهله. نعم، تلك هي الفجوة التي أتحدث عنها وتلك هي المسلّمات التي سأتحدث عنها هنا.
المرأة السودانية تبدو في رواية الطيب صالح مضطهدة بين الهياكل الأبوية والمعتقدات الدينية والتي تكمُن في عدم وجود مساحة لها في القرية مما يحدّ من خياراتها واختياراتها وتجمعاتها وتنقلاتها. ويقوم الراوي برسم تجارب وصور متعددة لإثبات ذلك. على خلاف المرأة البريطانية التي على الرغم من وجود رموز واضحة لمشاركتها هذا الاضطهاد، إلا أن الراوي لا يسطر بقلمه هذه الحقيقة كاملة. لذا سؤالي يطرح نفسه: هل يقوم الطيب صالح بطرح هذه الثنائيات ليثير فكر القارئ على بعض المسلَّمات الاجتماعية والأقاليمية؟ إذا كان ذلك غرضه حقَّاً، فسأبدأ بطرح بعض ملاحظاتي وبذلك أراجع بعض من مسلماتي أنا أيضاً.
تعرض الرواية أنواع من النساء، المرأة التي أُلغيت من الساحة الاجتماعية كوالدة بطل القصة، مصطفى سعيد، التي تتمنى له التوفيق أينما كان. فتقول في توديعه: “لو أن أباك عاش، لما اختار لك غير ما اخترته لنفسك. افعل ما تشاء. أو ابق. أنت وشأنك. إنها حياتك، وأنت حر فيها” متجنِّبَة بقولها هذا كل سلطة أبوية كانت تملكها منذ وفاة زوجها، بالإضافة إلى كل قيمة أَمَوية حيث جاء وداعهم بــ “لا دموع ولا قُبل ولا ضَوضاء.” ولكن لغرض الورقة النقدية هذه، سألتزم بنوعين من النساء فقط. وفيما يلي، سأقارن بين محاولات النساء البريطانيات والسودانيات للنجاة من تجارب أَشْيَنَتْهِم (معاملتهم كأشياء)، بين اللجوء للموت في حين واللجوء للجندرة التقمصية في حين آخر.
الموت
نرى حسنة، زوجة وَدْ الريِّس الكبيرة (في السودان)، أكثر اندفاعاً وسخريتاً من والدة مصطفى سعيد، وردّها في سماع خبر وفاة زوجها: “في ستين داهية.. وواصلت نومها.” المثير أن ردّها هذا تعبيراً عن سلبية وانسحاب زوجها المحب للنساء. حسنة اختارت النجاة على النجاح في أسلوب تعبيرها، وكذلك جين موريس، زوجة مصطفى سعيد (في بريطانيا) التي تشبهها في ذلك. رغم أن كلاهما لم يرغب بالزواج وكلاهما تمرّد بمقدوره من الرفض، إلا أن الفَرق يكمُن في أن المرأة البريطانية أكثر معرفة بقوى جسدها، فتقوم جين موريس بابتزاز مصطفى سعيد بما يبتزه - أو ما يبتز جميع الرجال في اعتقادها - وهو جسدها. ويشتكي مصطفى سعيد من جنونها قائلاً: “ونحن في الحانة صرخت فجأة: ابن العاهرة يغازلني. وثبتُ على الرجل وأخذت بخناقه… وفجأة سمعتها تقهقه بالضحك وراء ظهري… [فإن] هذا الرجل لم يكلمها بكلمة.” هذا الوعي في حد ذاته ربما يجعل القارئ يتسائل: هل المرأة البريطانية حقاً مضطهدة إذا؟ وسأجاوب هنا وأقول أن أَشْيَنَة المرأة اضطهاد لا شك في ذلك، وأنَّ وعي المرأة بهذه الأشْيَنة واللجوء لها واستخدامها ليست بالضرورة تحريراً من ذلك. ولكن بالطبع معرفة المرأة بذلك يتيح لها قوة من نوع آخر، قوة تجعلها تقهقه لمدة أطول قبل أن تتمنى الموت هي كذلك. لأن في النهاية، اختارت كلتاهما - حسنة وجون موريس - أن تنجوا من اضطهادهن بسلكهن طريق الموت.
الأشينة في الموت
إذا اعتبرنا أن موت كلتاهما فنّاً نظراً لحصوله كناتج لأشينتهن، فسنرى أنه رغم أنهن سلكن ذات الطريق، إلا أن موت حسنة كان فناً وحشياً: “وبنت محمود ثوبها الأحمر يعوم بالدم…معضوضة ومخدوشة في كل شبر من جسمها. بطنها. أوراكها. رقبتها. [ود الريس] عضَّ حلمة نهدها حتى قطعها.” أشْينَة جسدها لم ترحمها حتى في موتها، تلك الأشينة التملكية الغرائزية لمن أراد ولم ينجح، ود الريس، زوجها. لكننا نرى أشينة جسد جين موريس في صورة أخرى، فموتها كان فناً أيضاً لكن من نوع آخر. وبدلاً من الهجوم والوحشية، كان موتها دافئاً بطيئاً وداعياً إلى نشوة، حيث يروي الراوي: “ها هي سُفني يا حبيبتي تبحر نحو شَوَاطِئ الهَلاك. مِلْتُ عليها وقَبَّلتها. وضعتُ حدّ الخنجر بين نهديها، وشبكتْ هي رجليها حول ظهري. ضغطتْ ببطء. ببطء…وبدتْ لي أجمل من كل شئ في الوجود…وضغطتُّ الخنجر بصدري حتى غابَ كله في صدرها بين النهدين…وأخذت ادعك صدرها بصدري وهي تصرخ متوسلة: تعال معي..” لكن مصطفى سعيد تركها تذهب لوحدها ولم يذهب معها، على خلاف حسنة السودانية التي لم تحتاج لأن تتوسل أحداً، فقد اختارت أن تأخذ ود الريس معها إلى القبر.
المسلَّمات عن الشمال
الكاتب ربما يقوم بنقل واقع اجتماعي وهو واقع تغيير أسماء الأشياء لمواكبة مجتمعاتها، فيرمز للمرأة البريطانية برموز الانفتاح والاستقلال والسودانية برموز التخلف والاضطهاد. وفي التعبير عن المرأة البريطانية، يخبرنا الراوي عن النساء في أوروبا فيقول: “هذه السيدة، نوعها كثير في أوروبا، نساء لا يعرفن الخوف، يقبلن على الحياة بمرح وحب استطلاع. وأنا صحراء الظمأ، متاهة الراغب الجنونبة… سألتني… عن بلدي. رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها.” هل هذه هي الثنائية إذا التي تضع المرأة السودانية تحت غطاء التخلف والاضطهاد وتكشف عن البريطانية بالمرح، وحب الاستطلاع، والاستقلالية؟
الجندرة التقمصية:
أما النوع الآخر من محاولات النجاة فيندرج عند هؤلاء النساء المتحررات والناجحات والمبادرات، كـبنت مجذوب (في السودان) وميسيس روبنسن (في بريطانيا)، والتي تُعْرَف إحداهن بإسم زوجها والأخرى بإسم أبيها. وبعيداً عن محاولات النجاة الفاشلة الأولى، فإن هاتين تستمدان منصبهما وكيانهما الاجتماعي جيداً، فتقوم ميسيس روبنسن بكتابة كتاب يخلّد ويحتفل ببطولات رجلين في حياتها: زوجها، ومصطفى سعيد، وبذلك تستمد قوتها وشهرتها كإمرأة، أما الأخرى فتستمد قوتها ومدخلها إلى عالم الرجال عن طريق تقمصها لشخصية ذكورية التي تتيح لها الفرصة للجلوس بين مجتمع الرجال ورواية القصص لهم، خاصة وأن غالباً ما تكون أحداثها تدور حول عالم النساء. فهل من الممكن أن يتساوى رجل بإمرأة في السودان أو في انجلترا إذا “صاروا كفرس ومهرة يركضان في تناسق جنباً إلى جنب”؟